الثلاثاء، 20 أكتوبر 2009

شلاتين.. لؤلؤة مصر المنسية ..بقلم احمد فؤاد جويلى


تقطع بى السيارة طريق الأسفلت إلى أقصى جنوب شرق مصر المعظمة، سيف البحر على يساري، وعلى يمينى سيف الصحراء، وقد أعطى غروب الشمس سكوناً خلاباً على قمم جبال البحر الأحمر وموج البحر، وقباب القرى السياحية المنتشرة على ساحل مرسى علم. أيقظ غروب الشمس فى داخلى وجه صديقى القادم من أقصى الجنوب، قاطعاً الطريق منذ آلاف السنين عبر هضاب الحبشة مخترقاً سهوب إريتريا والسودان، متجهاً إلى مسقط رأس جده المصرى القديم. يشرد جمل صاحبى فى أحد الأودية فتحمله قافلة أحفاده التى تقتفى أثره للشمال، تاركة خلفها نسلاً عظيمًا من قبيلة "البيجا الأم" تمثل فى قبائل البنى عامر والحالنقا، والأمرار والهدندوة والبشارية والعبابدة، هؤلاء الذين اتخذت الدولة المصرية الفرعونية منهم حراساً للصحراء، وقوامين على ذهب مناجم جبل العلاقي، وصاحبت كتيبة منهم رمسيس الثانى فى حروبه فى قادش، فأطلق عليهم لبسالتهم اسم "الماجوي" أى حرس الصحراء، وهى التى تحرفت بعد ذلك إلى "الميجا" ثم "البجاه" حتى انتهت إلى "البجا". وكان أن رأت الدولة المصرية الحديثة أن تهيئ لهم حياة الاستقرار، فأنشأت بيوتاًَ لتوطين الرحل منهم، ما فتح أمامهم الباب للحصول على الوظائف الحكومية، وفتح المشروعات التجارية وإدخال أولادهم وبناتهم المدارس والمعاهد فى شلاتين وأبو رماد وحلايب. جاءتنى مكالمة على هاتفى المحمول بأن صديقى التاريخى القديم "عازف الهارب الفرعوني" قد وصل إلى شلاتين وينتظر لقائى منذ وقت طويل، نظرت إلى المساحات الواسعة الخالية على الشاطئ يومض فيها القمر، وتمثلت الآلاف من الشباب العاطلين عن العمل فى مصر، فلماذا لا تفكر حكومة الدكتور أحمد نظيف فى إنشاء جهاز مصرفي، يعطى كل عشرة من المتفوقين من خريجى المعاهد السياحية قروضاً كبيرة ميسرة، لإقامة بعض القرى السياحية الصغيرة فى هذا المكان الذى يبشر بمستقبل مصر، وهؤلاء العشرة مع تكليف بيت خبرة لإدارة هذه المشروعات، سوف يصبحون مئات يضمون إليهم عشرات الآلاف من الشباب العاطلين. مرت بى أطياف الماضى القريب لهذه المنطقة الجبلية الثرية، التى تحمل فى عروقها الذهب والمنجنيز والكوارتز وغيرها من المعادن، وكانت قد بدأت الصناعات التعدينية المصرية فى حلايب عام 1915 عبر "شركة علبة المصرية للتعدين" التى كانت تعمل فى جبل علبة، وهو الجبل الذى صدر قرار وزارى بتحويله إلى محمية طبيعية، فهو المكان الوحيد فى مصر الذى تستطيع أن ترى فيه كل الحيوانات الإفريقية، ربما باستثناء الزراف والفيل ووحيد القرن، كما تتنوع فيه النباتات النادرة، وحدث أن أدمجت "شركة علبة للتعدين" فى "شركة النصر للفوسفات" عام 1963 أطلت شلاتين فى الفجر وتجلى تحت أول ضوء سوقها الكبير الذى يشكل منتجعاً تراثياً من جانب، وسوقاً للتجارة الدولية بين مصر والسودان، ومصر والساحل الإفريقى من جانب آخر، بينما تقع على حافة السوق وباتساع الصحراء كبرى محطات قوافل الجمال القادمة من السودان والمتجهة إلى أسواق "دراو" بأسوان، وسوق إمبابة بالجيزة. جلست على حافة الصحراء أرصد روح الوحدة فى مناطق التقارب، ويتجدد داخلى الحلم الوحدوى بين شعب وادى النيل، حتى وإن كانت اتفاقية الحكم الثنائى الموقعة فى 19 يناير عام 1899 قد نصت فى مادتها الأولى على أن تطلق لفظة السودان على جميع الأراضى الكائنة جنوب الدرجة الثانية والعشرين من خط العرض، إلا أن ماء النيل الذى يجرى فى عروق المصريين والسودانيين، جعل الجسد الواحد لا يعيش نصفه الأعلى دون نصفه الأدنى ولا العكس أيضاً، فالنيل النورانى الذى يتدفق فى العروق هو الذى يطفو فوق تأشيرات الدخول والخروج، كما سيظل فى نفس الوقت هو الحافظ لحق الجوار وحق السيادة السياسية الدولية. من رؤيته كباحث فى المأثورات الشعبية يرى ربيع محمد ربيع مدير ثقافة شلاتين، أن الأحلام يكمل بعضها بعضاً، وأن تراث الأمة المصرية فى هذا المكان الحدودي، خليق بإنشاء المتحف الأنثروبولوجى فوراً، ويطالب ربيع بتفعيل القرار 170 لعام 2004 الصادر من محافظ البحر الأحمر، بتخصيص 18000 متر لإقامة قصر ثقافة شلاتين، ولأن ربيع يعرف تماماً أهمية الدور الذى تقوم به الثقافة فى هذا المكان، فهو يطالب بتخصيص بيتين من بيوت التوطين فى أبو رماد وحلايب لإقامة بيتين للثقافة بهما، وإنشاء مكتبات عامة فى أبرق ومرسى حميرة. وتعكس آراء المسئولين التنفيذيين والشعبيين والأهالى فى شلاتين، حقيقة الدور الفعال الذى تقوم به كتيبة الثقافة، من رفع للوعى بين الأهالى وبث روح التغييرات الإيجابية على المستويات الاجتماعية والثقافية والمعرفية، فهنا يتردد اسم د.أحمد مجاهد رئيس هيئة قصور الثقافة، ود.أحمد نوار الرئيس السابق للهيئة، وطلعت مهران رئيس قطاع وسط وجنوب الصعيد الثقافى بشكل مشرف وملفت للنظر، كما أنهم يذكرون جيداً أول بعثه قادها الدكتور صلاح الراوى فى منتصف التسعينيات، لدراسة المأثورات الشعبية بالمنطقة، كما أن هناك أصدقاء لشعر الصديق مسعود شومان مدير أطلس الفلكلور. الحضور الثقافى المكثف الذى يتمثل منذ عام 1997 فى الخيمة البدوية التى زارت القاهرة، وسط احتفاء ثقافى كبير بها، وفى عشرات الأمسيات الشعرية والمحاضرات الدينية والقوافل الثقافية والأسابيع السينمائية، بشلاتين وحلايب، إضافة إلى زيارة 72 فرقة فنون شعبية وتلقائية للملتقي، لا يزال حاضرًا، حيث الناس هنا يرسلون بالتحية للفنان حسين فهمي، والمطرب أحمد إبراهيم، فما زالت زيارة كليهما للملتقى مثار الحديث والإعجاب. لكن يبدو أن غياب "أبوتريكة" والفانلة الحمراء هو الذى لفت انتباهي. كنت ألعب الكرة مع بعض شباب البشارية والعبابدة، وراح أحدهم "يغربل" فريقنا ترقيصاً، فناداه الجمهور باسم "أبوتريكة"، فأين كابتن مصر المحبوب وأشبال النادى الأهلى من زيارة لأهلهم فى أجمل بقاع مصر الجنوبية؟، فلا توجد بصمة ولو صغيرة جداً لجهاز الشباب والرياضة الغائب تماماً عن المكان.

0 اكـتب تــعليــقـك على الموضوع:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك بدون تسجيل