الجمعة، 23 يناير 2009

قراءه فى ديوان تراتيل المريد للشاعرالحسين خضيرى


تتعدد أشكال الكتابة وألوانها ومحاورها، وكذلك تتعدد الرؤى بما تحوي من عوالم يصبو إليها الكاتب ويحاول الوصول إليها من خلال إبداعه وخياله، مما يصنع له التميز والتفوق، وغالبا ما تكون لحظة الإبداع الحقيقي هي لحظة اكتشاف مثيرة ورائعة، تتملك على المبدع جميع حواسه وترتقي به حتى يقال إن الكاتب تفوق على نفسه وكأن هذه اللحظة خارجة عن إرادته أو كأنها فرضت نفسها عليه... هكذا تتراءى لي تلك الأبعاد من خلال قراءتي في ديوان: (تراتيل المريد) للشاعر الحسين خضيري.بأية حال قد يعكس عنوان الديوان شعورا ً بالصوفية، وقد يكون ذلك صحيحا ً بشكل ما، إذا ما قلنا إن صدق الإحساس وصفاء الروح هما ملامح من الصوفية، وهما أيضا ً أبرز ما يعكسه الديوان.فعند دخولنا إلى ساحة الديوان سوف نجد أن أغلب قصائده تشي بشاعر له مداره الخاص الذي يهيم فيه وحده، وإذا طالعنا بعض الأمثلة من قصائده، حتى تتضح الرؤية أكثر، نجده في قصيدة "شتاء المنفى" وهو يصور ليلة عيد الميلاد في المدينة – المنفى – فيقول: العائدات إلى المخيم / كن أجمل / حين غادرن البكاء / والصبية المتهافتون على غد ٍ / سوف يزهر حلمهم عما قليل في العراء / والصليب المرمري / ما مزقت أجراسه في ليلة الميلاد أروقة السماء / ما مر في بال المدينة / كيف تجمعهم إليها / والشتاء هو الشتاء...كأن كل من في المدينة منفيون أو مستعمَرون، فحالة الانكسار التى تبدو على الأشياء والبشر حتى العائدات إلى المخيم رغم ما بدا عليهن من جمال بلا دموع وبكاء، إلا أن عودتهن إلى المخيم مازالت تعكس حالة الحصار. أيضا ً أجراس الصليب الصامتة في ليلة الميلاد والمدينة التي لم تعد وطنا ً من حيث الاحتواء و الدفء، بل تلفظ أبناءها وتتركهم للشتاء. وقد يكون مدلول الشتاء في هذا الجزء من القصيدة هو فتور الأشياء وشعور الشاعر بالحيادية تجاهها. ويقول الحسين في جزء آخر من نفس القصيدة: مرّي على باب المدينة / فالحصار هو الحصار / ما عاد يتسع الفضاء لأجل أغنية ٍ تزين أن ذاك النصر آت / صار قفّازا ً مدارك / يستبيح أصابع القتلى / ويسلك في دمي دربا ً لموتي والخواء. لعل الشاعر ينادي ليلة الميلاد ويدعوها لأن تطرق باب المدينة التي لا يبدو عليها مظاهر ليلة الميلاد فهي محاصرة في داخلها حتى فضاؤها يضيق وكأنه نبوءة بمزيد من الانكسار والهزيمة، ويستمر الشاعر حتى نهاية القصيدة محاولا ً استجلاء سويعات من البهجة وسط كم من سنوات الأسى.وفي قصيدة أخرى للشاعر بعنوان: "بغداد" يستنهض الشاعر بغداد متغزلا ً في بهجتها وشموخها الذي ما يزال يراها عليه في الوقت الذي يعترف فيه بعجزه عن الوقوف لنصرتها فهو لا يملك إلا ذلك الحب الذي يحرك وجدانه وهو يرى بغداد حبيبة ً تضيع في الزمن العصي: بغداد تفتح للمدى جرحي / فتصطاف البلاد بصهد جذوته وفيّ / لها في الروح متكأ / ولي ّ الخريف على رقاد الذكريات / وحلم عودتي الشقي.إلى ذلك الحد اتسعت مساحة الجرح لدى الشاعر حتى تصطاف البلاد به، ولكن ذلك الجرح لا يحمل النسيم بل يحمل الصهد والألم، أما بغداد الحبيبة فهى ما تزال تتكئ على روحه مستريحة من عنائها وكأن الشاعر يحاول أن يحمل عنها أحزانها. ويستطرد الشاعر على نفس الإيقاع مبررا ً عجزه عن تحويل عشقه إلى فعل: بغداد عانقها الرحيل / لينتحب المدى / ويطلق ألف عاصفة عليّ / بغداد تحسبني الرشيد تهزني / ما كنت يا بغداد سوى الغويّ / هزّي سماءك وانفضي عنك الرمال / لعله بين النجوم لنا نبي ّ / ضاقت بعيني المنافي كلها / فافتحي عينيك هاتي زرقة النهر الفتي ّ.لعل ما يستوقفني عند هذا الجزء من القصيدة جملة: "ضاقت بعيني المنافي كلها" وقد آثرت أن أذكر هذه الجملة داخل سياقها حتى أجد مبررا ً لها حيث أنها جاءت تقريرية ولا تتناسب وعمق الصور الشعرية الأخرى. إذ إنه من الطبيعي أن تضيق المنافي داخل الشاعر بل إن للمنافي معطيات أشد قسوة من أن تضيق في عينيه حتى وإن كان ذلك تبريرا ً لاحتياج الشاعر إلى دفء مدينته البعيدة .وفي محاولة أخرى للدخول إلى أغوار الديوان يقدم الشاعر تجربة متفردة عن مجموعة القصائد الأخرى، فهى تكاد تكون القصيدة الوحيدة التي تربط بين هم الحبيبة والوطن بمعناه الأشمل:متى هلّت على الأكوان نعمى / تقطر من جبين الكون نورا / وهلّ على المفارق في اشتياق / تمايل كالنسيم فقلت فجرا ً / وعانقني فذبت من العناق / تندّى وجه ملهمتي حياء / نعمى رويدك هل مللت من التلاق. هكذا نرى الشاعر يتغزل بشكل صريح في محبوبته تلك المحبوبة التي تشكل ملامح كون الشاعر الذي سرعان ما ينتقل معاتبا ً السنوات التي تعاند قلبه الصب: تأبّى الدهر يا نعمى طويلا / فما أغناه عني بالوفاق / قلبي بنفسجة زوت / ودمي على مهل ٍ يراق / هل يركب الأشواق من ماتوا أو يستفاق من في غيه قد فاق.هكذا حال الشاعر حين تستنزفه الأيام إلى حد الموت فهو لا يجد لذاته المشتتة مأوى غير الحبيبة ومن ثم ينظر حوله فلا يجد من يتأسى به غير الوطن الذي يجده الشاعر معادلا ً لانكساره و تغربه: وطن وتكسوه المذلة / تأبى لجبهته الفراق / ناقوسه في الصدر يدوي / وصهيله في النفس باق / إني بكيت القدس حتى / ما من دموع ٍ للعراق.وإن تأملنا مجمل قصائد الديوان نجد مفهوما ً رئيسا ً تعكسه معظم قصائده وهو اغتراب الشاعر عن محبوبته ومعاناته الدائمة من ذلك الحب، غير أنه لم يتهم تلك الحبيبة بالتخلي إذ أنه يراها وفية ً ومحبة ً إلا أن مفردات الحياة هي التي دائما ً ما تحول بينهما مما يجعل الشاعر أكثر إيلاما وعنفا ً فربما لو كانت تلك الحبيبة خائنة لوجد الشاعر ذريعة ً لمحاولة نسيانها وحتى عند لقاء الشاعر محبوبته يصر على أن هناك حالة من القلق لم تزل: يدها على المنضدة / تعد دقائق الصمت / ويدي بين أصابعها / تسجد الوقت.وعلى الرغم من حالة الإمتاع التى حققها لي ديوان الشاعر الحسين خضيري إلا أنني أشعر يقينا ً بأن الشاعر لديه أكثر من ذلك، فهناك عوالم وآفاق أكثر رحابة تبدو على طريق القصيدة التي يقدمها، لكن لا أستطيع أن أصل وإياه إليها وغالبا فإن مرجع ذلك إلى حرص الشاعر على الالتزام بالقافية التي تصنع جرسا ً موسيقيا ً محببا ً لديه غير أنها أحيانا ً تحد من انطلاق رؤيته التي كان من الممكن أن تتسع أكثر، لذا أهمس في أذن الشاعر بألا تشكل القافية غاية لديه، بل يترك للصورة الشعرية أن تأخذ مدارها كاملا ً حيث أنه قادر على أن تكون قصيدته أكثر عمقا ً ودلالة، كما أني لا أنكر على الشاعر قدرته وتمكنه من جعل قافيته طيعة ً وسلسة: ضحكت لعاصفة ٍ يداك / فارتد من نعناعها ألق ٌ عليّ / والذي خلفت ُ من بوح المسافر للصدى / أغنية ً تسافر يا أنا مني إليّ.

0 اكـتب تــعليــقـك على الموضوع:

إرسال تعليق

اكتب تعليقك بدون تسجيل