لكل شعبٍ طريقته في التعبير عن حضوره ولكل مجتمع أساليبه الخاصة بالتعريف عن ثقافته العامة والخاصة، والشعر بطبيعة الحال هو ديوان العرب، وفي كل المراحل التي ينشأ فيه ويكشف عن ثقافة المجتمع الذي يتكون وينمو فيه لاسيما في المجتمعات الأولى التي تبتعد بقدر كبيير عن منافذ الحضارة والثقافة بشكلها الحيوي.
وهنا نقصد المجتمعات الريفية والقروية التي لها آلياتها في التجاوب مع عصرها في كل حين، ومن يزر محافظة قِنا في أقصى الصعيد المصري سيتعرف على واحد من الأنواع الشعرية غير المألوفة في الشعر العربي فصيحاً كان أم عامياً، فهذه المحافظة تشتهر بقول شعر «الواو» وتفتخر به بل وتنفرد بقوله دون محافظات مصر كلها، فالواو فن شعبي في صعيد مصر وهو فن شفاهي غير مدون في أغلبه وعادة ما يكون قائلوه مجهولين.
الشاعر محمد خربوش عَلَمٌ من أعلام مدينة الأقصر في محافظة قِنا وأحد رواد هذا النوع الشعري الذي لا يعرفه شعراء العربية سواء الذين يكتبون الفصحى أو الذين يقرضون الشعر الشعبي. ومع السيد خربوش هنا وقفة تعريفية لهذا النوع الشعري الغامض: «الواو شعر يعتمد اللغة الشعبية وسيلة لتشكيل القصيدة منسجماً مع إيقاع موسيقي محدد، كما يعتمد نظام الشطرات الأربع التي تكون بيتين شعريين ولها نسق موسيقي خاص وبشرط أن تتحد الشطرتان الأولى والثالثة في نفس القافية والشطرتان الثانية والرابعة في نفس القافية المغايرة لسابقتها، كما يعتمد هذا الفن على التجنيس المغرق في التعمية والغموض..
من أين جاء هذا النوع الشعري! ما هو أصله؟
أصل هذا الشعر يعود إلى «احمد بن عروس» من عهد المماليك الذي قاله في تلك الفترة لأسباب سيكون معظمها سياسياً خاصة إذا علمنا أن هذا النوع الشعري الجديد يُطلق عليه شعر «الواو» وازدهر فن الواو في عصر المماليك والأتراك وكان كثيرا ما يلجأ إلى التورية والكلام الغامض والمقنّع حتى يستطيع يمرر أغراضه السرية ويفلت من الرقابة الرسمية ليكون قريباً من العامة لتحقيق أهدافه..
ولماذا سمي بشعر «الواو»؟
لأن حرف الواو في العربية هو حرف (ملتوي) وهذا الالتواء الحقيقي للحرف صار مجازاً في التعبير الشعري، بحيث يستطيع الشاعر أن يقول في الحاكم ما يشاء ؛ بمعنى يُطلق السهم ولا يُعرف راميه بالأدوات الخاصة به، فكان بن عروس أول من ابتكر هذا النوع الشعري «الملتوي» الأغراض شفاهاً حتى صار بين العامة هو الموئل الأول لرصد الساسة المماليك في ذلك الوقت ومن ثم شاع ووصل إلى هذا العصر وما زلنا نتقفى أثره كي لا يضيع أو يموت.. وسمي بهذا الاسم أيضاً لأن الراوي كان يبدأ الرواية بقوله «وقال الشاعر» وتكثر واوات العطف هذه فأصبحت لازمة لابد أن تقال وعليه أخذت له هذه التسمية.
هو فن شعبي بالنتيجة؟
هذا شعرٌ يقوله العامة في السهرات الليلية للتسلية لأنه فن شعبي في أساسه ويتركز انتشاره في محافظة قِنا لأنها منشأ ابن عروس بمدينة قوص وهي من أعمال محافظة قِنا شمال الأقصر مباشرة.
هل هناك نظام وزني ينظّم هذا الشعر؟
هذا النوع الشعري يُنظّم على بحر المجتث وهو بحر شعري له نسق موسيقي يطرب الشعراء فأكثروا من نظمه، ولكن من يخرج على هذا البحر يسمونه (مربع) وعادة شعراء الواو جبلوا على أن يبدؤوا بمدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع حلاوة هذا الفن بدأ العامة وهم من الأميين بالذات يقرضونه شفاهاً فتفننوا فيه ومنهم علي النابي وأبو زوط وقد اهتم به بعض الأكاديميين من المثقفين كي لا ينقرض بمرور الزمن لأن قائليه قليلون كالسيد عبد شمس الدين الحجاج الذي درسه دراسة مستفيضة، فالواو عشق وموهبة
وما هي الأغراض التي يتناولها؟
أغراضه مثله كمثل الفصحى لكنه على نوعين «الأحمر» وهو الشعر الذي يخص كل شرائح المجتمع والعلاقات الاجتماعية اليومية كالوعظ والحكمة و«الأخضر» وهو النسيب أي الغزل وهو من الدارج المألوف في التغزل العفيف.
لماذا تركز هذا الشعر في محافظة قِنا؟
البيئة وحدها فرضت هذا النوع الشعري في محافظة قِنا وطبائع البشر هنا هي غيرها في كل مكان، ومن قال شعر الواو لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة وكلهم من قِنا أمثال عبدالستار سليم وعادل صابر وبهجت الخطيب وعبدو الشنهوري، وهذا الشعر لا يوجد في كل الوطن العربي وحتى في مصر، بل يتركز في قنا فقط؟ تقرضون شعر «النميم» أيضاً ما هو فرقه عن شعر الواو؟
يعتمد وزن النميم على خمس شطرات ولا يوجد له وزن واحد فإذا كان شعر الواو يعتمد الجناس في شطريه الأول والثالث والثاني والرابع فإن شعر النميم يعتمد على أربع شطرات وبقافية واحدة. وهذا الشعر نشأ في اسوان وسمي بالنميم لأنه منمنم أو مزركش.
هل هناك شاعرات يقرضن هذا الشعر؟
النسوة يعشقن شعر الواو وبعضهن يقلنه لأزواجهنّ، لاسيما العجائز من النساء، وإذا ما حصل أن هناك امرأة تقرض شعر الواو فيجب أن تُبلغ زوجها به قبل أن تقوله..
كيف ترى مستقبل هذا الشعر في حياة شعرية كبيرة المعالم؟
بصراحة فإن شعر الواو معرض للانقراض ما لم تشكل هناك هيئات أدبية لرصده وأرشفته وتشجيع شعرائه، فشعر الواو يقوله عادة رجال أميون تعلموه بالفطرة وانغمروا في معانيه الكثيرة وقلما يكتبونه، لذلك فهو معرض للضياع، وما وصل الينا سمعناه شفاهاً فشعراؤه لم ينالوا قسطهم من التعليم، إنما نشأتهم الفطرية جعلتهم يميلون إلى اكتساب فصاحة شعرية مناسبة لقول هذا الشعر الصعب، لذلك لم يدونوه، بل حفظته العامة من الناس ووصل إلينا من عهد المماليك والأتراك حتى اليوم.وهذا يفسر لماذا أغلب هذا الشعر لشعراء مجهولين!
وارد بدر السالم
خربوش في سطور
* محمد الأمين الشاذلي خربوش مواليد 10-12-1946 ـ ريف قوص.
* مفتش تأمينات اجتماعية.
* شارك في حرب أكتوبر 1973 كجندي.
* رئيس مجلس إدارة جمعية تنمية المجتمع بالكلالسه ـ قوص.
* أصدر الكتب التالية:
ـ «خرابيش خربوش» شعر من فن الواو 2006.
ـ شكوك في حيطان الحلم 2007
ـ له تحت الطبع ديون شعري بعنوان «المحاسة»
1 اكـتب تــعليــقـك على الموضوع:
الديوان اسمة شقوق مش شكوك
إرسال تعليق
اكتب تعليقك بدون تسجيل