حاولتُ الأسبوع الماضى أن أكتبَ لكم عن رحلتى الأخيرة للأقصر، ضمن الوفد المشارك فى مهرجان طِيْبة الدولى. واكتشفتُ أن عشرات المقالات لا تكفى تلك المدينةَ الساحرة! هل سأبدو منحازةً جدًّا لبلادى، فيرمينى بعضُهم بالشوفينية التى لا تليقُ بالشعراء، لو قلتُ إننى لم أرَ أجملَ منها مدينةً، على كثرة ما زرتُ من بلاد العالم؟ حسنًا، فليكن.
وددتُ أن أحدثكم عن جمال المكان، وجمال الأثر، عن فتنة التاريخ، وعبقرية الأجداد. عن نبالة التراث وأصالة المأثور (حدثنى صديقى الروائىّ فؤاد مرسى عن الفارق الضخم بينهما). وددتُ أن أحدثكم عن رقىّ الأقصريين وثقافتهم الأصيلة. وددتُ الحديثَ عن الأقصرىّ الراحل يحيى الطاهر عبدالله.
كما وددتُ الحديثَ عن صاحب «مدن الغَيْم»، الشاعر والمترجم الجميل الحسين خضيرى، الذى كرّمه المهرجان، وعن الرائعين: مأمون الحجّاجى صاحب «أوزوريس نصيرُ الفقراء»، وأحمد جويلى صاحب «كتاب المحو»، ، ومحمد عبداللطيف الصغير، والأسوانىِّ جمال الهلالى، وعن حسين القُباحى، الذى فاز بجائزة «بهاء طاهر»، التى خصصّها، لرقيّه، لأدباء الأقصر وحدَهم. وكثيرًا ما فكرتُ أن أجملَ ما فى جائزة أدبية هو أن تحملَ اسمَ مبدع حقيقىّ.
فحتى جائزة نوبل، أرقى جوائز الدنيا، ستظلُّ تحملُ اسمًا مُلتبسًا قرينَ مادة دمار هى الديناميت، حتى وإن تطهّرَ صاحبُها؛ وغسلَ فعلتَه بتدشينه جائزةً للسلام وللآداب وللعلوم! وفى المقابل، هل أرقى من جائزة تحمل اسمَ: «بهاء طاهر»؟ وددتُ الحديثَ عن موقع «أدباء الأقصر»، هنا: http://odabaaluxor.blogspot.com، الذى يضمُّ أخبارَ الجنوبيين من أدباء مصرَ. وددتُ أن أخبركم عن الصَّبية الجميلة نرمين نجدى، التى تغارُ على الأقصر وآثارها بوصفها مُلكها الخاص.
وددتُ أن أحدثكم عن حسين، سائق الحنطور، الذى سَمّى حِصانَه «شَجِىّ»، (ظننته من «الشَّجْو»، ثم تبيّن أنه إنما يقصدُ: «شَقىّ» من الشقاء). وددتُ الكلامَ عن الطَّوْد، وساحة الحجّاج، و«المركز الحضرىّ للمرأة»، حيث البناتُ يصنعن بأياديهن أجمل القطع الفنية من سجّاد ونُحاس وملابس.
وددتُ أن أرسمَ لكم الفخرَ فى عيون المصريين وهم يشاهدون معبدَ الكرنك ومتحفَ الأقصر، وبين الحين والحين، يرمقون بزهوٍ نظراتِ الإكبار فى عيون الشاعر اللبنانىّ محمد على شمس الدين، والسودانىّ الفاتح حمدتو، والعراقىّ على جعفر العلاّق، والسورييْن كمال جمال بك وتميم صائد، والتونسىّ صلاح الدين الحمّادى، وسواهم!
وددتُ الحديثَ عن الدراسة المهمة التى كتبها الشاعرُ الجنوبىّ الجميل فتحى عبدالسميع حول «الثأر فى الموروث الشعرى»، وعداها من الدراسات الجادّة التى غذَّت عقولنا على مدار أيامٍ أربعة. آتونى، إذًا، بمجلداتٍ ضخمة، ومدادٍ لا ينفد، لأكتبَ لكم عمّـــا أودُّ الكتابةَ عنه!
يبقى أن أجملَ ما حدث فى مهرجان هذا العام هو وضعُ حجر الأساس «لقصر ثقافة بهاء طاهر» بمدينة الأقصر. المكان: قطعةُ أرض مُهْداةٌ من الكاتب الكبير، البناء: على نفقة مجلس المدينة، الإدارة: هيئة قصور الثقافة. ووعدنا د. سمير فرج، رئيس مجلس مدينة الأقصر، بأن يُقصَّ الشريطُ العامَ القادم. لحظةَ وضع الحجر، الذى حملته معًا أيادى مثقفين ثلاثة: طاهر وسلماوى وفرج، تجوّلت عيناى بين وجوه أصدقائى الشعــــراء والأدباء؛ فوجدتُها جميعَها تنضحُ بالبِشْر الحقيقىّ، والفرح الذى محلُّه القلب، كأنما كلٌّ منهم يشهدُ وضعَ حجر أساس بيتٍ يحمل اسمَه هو!
أجملُ الوجوه فى المهرجان كان للسيدة منال رمضان هاشم، أرمل المبدع الجاد «محمد صفوت عبدالكريم»، صاحب الأوبريت الشهير «أطفال الحجارة». رحل الزوجُ قبل شهور، فجاءت الزوجةُ لتتسلَّم درعَ تكريمه، فيما دمعةٌ نبيلة تترقرق فى عينيها الجميلتين. دمعةٌ ستظل جامدةً فى مِحْجرِها حتى تلتفتَ وزارةُ الثقافة إلى أسرة ثكلى، بأبنائها الخمسة، فقدت عائلَها.
أما أرقى ما تمَّ فى المهرجان، فجاء فى توصياته النهائية: التماسٌ بعلاج الأديب محمد ناجى على نفقة الدولة. ومن هنا أرفعُ صوتى للرئيس مبارك، بأن يسارعَ بإنقاذ مبدع جميل نحتاجُ إلى وجوده، نحتاجُ إلى قلمه.
fatma_naoot@hotmail.com
رابط الموقع
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=234975&IssueID=1605