يمثل الشاعر محمود مغربي أحد أبرز الأصوات الشعرية في حقبة الثمانينات في مصر، فهو ينسج تجربة مختلفة في رؤاها وموضوعاتها، وتتمتع لغته بخصوصية مفرداتها وقدرتها على التشكّل المجازي، وكشف عن ذلك عبر أكثر من عمل: «صمت الوقت» (كتاب شعري مشترك مع شعراء قنا جنوب مصر)، «أغنية الولد الفوضوي»، «العتمة تنسحب رويداً»، و«تآملات طائر».. حصل مغربي على عدة جوائز أدبية منها جائزة صحيفة «أخبار الأدب» في الشعر عام 1995، جائزة هيئة قصور الثقافة في الشعر في نفس العام أيضا، وجائزة المجلس الأعلى للشباب والرياضة الأدبية عام 1996.
أنت قادم من وسط تجمع أدبي كان فاعلا في الجنوب في بداية الثمانينات، كيف ساهمت جماعة (رباب الأدبية) في دفع تجربتك الشعرية؟
البدايات دائما لها روافد وقنوات مختلفة، يمكنني القول بآن بدايتي تجلّت في مشاركتي لجماعة (رباب الأدبية) عام 1980 والتي كان يشرف عليها الشاعر أمجد ريان في فترة تواجده في محافظة قنا بصعيد مصر، تواجدي واحتكاكي بكل أفراد هذه الجماعة أضاف وفتح الكثير من النوافذ الهامة. في هذا المناخ تعرفت على إبداعات أدونيس وسعدي يوسف وأحمد عبد المعطي حجازي وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبدالصبور وشاكر السياب وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي وغيرهم، مما أضاف لي وفتح أمامي نوافذ جديدة لأول مرة، فعرفتُ بآن هناك شعرا مختلفا، وأدركتُ مبكرا تطورات القصيدة العربية عبر مسيرة أجيالها. كما يظل لثراء المكان عطاءات لا حدود لها من خلال الموروث الشعبي والسيرة الهلالية والمنشد الشعبي في الموالد الشعبية ذات الثراء المدهش. في عقد الثمانينات كان المناخ فياضا بروح العطاء والتلاحم والاحترام في كل مجالات الفنون من أدب ومسرح وفنون تشكيلية وغيرها، حيث كانت الحقبة غنية بالأمسيات والندوات، كما كنا نجد في قرى الصعيد ما يسمّى بـ«ظاهرة المنادر» التي كانت تستقبل الشعر والشعراء وتتفاعل الجموع مع الكلمة.. كل هذا اندثر تقريبا ولم يعد هناك ذلك الألق الذي كنا نراه في عيون محبّي الشعر والكلمة.. والآن ماذا تبقّى من كل هذا، نجد الآن المشهد مرعبـا، هناك العزلة، فلقد انصرف الجمهـور، لذا نجد الأمسيـات والندوات والمؤتمرات تخلـو من روح التواصل الحقيقي والفعّال، وفي المقابـل نجد هناك احتـفاء كبيرا من الجمهور بفنون أخرى تقدم المتعة والتسلية البصرية، نحن الآن أمام جمهور تحوّل من «القراءة» إلى «الفرجة».
على ضوء هذه التكوين ما هو مفهومك للشعر؟
الشعر يعني القيمة، البحث عن الجمال في كل صورة، ودون مفردة (شاعر) سوف أصبح فقيرا حتى وإن امتلكت كنوز الأرض، وأعتقد أن الشاعر هو الكائن العلوي الذي وحده يستطيع أن يحتوي العالم، هو يدرك جوهر الأشياء، وأصدقك القول بآنني أمتلك قدرة عجيبة على تحويل كل ما هو حولي لدعم الشاعر الذي بداخلي، كل هذا أصنعه في مقرّ عملـي الذي ليـس له علاقة بالشعـر، في المقهى والشارع، في الجامعـة والمحافل الثقافية، وفـي كل مكان أجتهد كثيرا ليدرك الناس قيمـة الشعر والكلمة، قيمة المعـرفة والثقافة في كل صورهـا. إنّ كل ما يهزّني وبشكل عنيف مهما كان حجمـه يدفعني إلى الكتابة، لذا علينا أن نفتش عما يبهرنا من أجل أن نعيش في حضرة الكتابة بشكل حقيقي ومخلص.
كيف ترى حال الشعر والشعراء الآن؟
الشعر والشعراء الآن لا حوْل ولا قوة لهم، كيف يمكنهم أن يغيروا سلوكا أو ما شابه، فالشاعر قديما كان له صوت مسموع ومؤثّر حقا، لأن المناخ كان يوفّر الكثير لهذا الشاعر.. أما الآن لا عزاء للشعراء وأيضا للمنشد الشعبـي وشاعـر الربابـة في القـرى والنجـوع، لقد اختفى كل هؤلاء في قنوات السموات المفتوحة التي تحتفي بكل ماهو طاغ ومؤثّر.
تنتمـي إلـى جـيل الثمانيـنات الشعـري فــي مصر، إلى أين وصلت تجربة هذا الجيل؟
لقد ظلم كثيرا هذا الجيل، فقد ولدت تجربته بين فكّي جيلـين متمرديـن، أولهمـا جــيل السبعينـات والآخر التسـعينات، الأول استـطاع أن يدخل دائرة النقد وإن بدأ هذه الحركة ذاتيا باعتبار مقولتهم الذائعة الصوت: «على الجيل الأدبي أن يفرز نقّاده»، وكان أن تواصل بعدها كبـار النقاد مع هذا الجيل. أما الجيل الثاني (التسعينات) فآراه محظوظا على كافة المستويات، حتى في مجال النقد، فقد وجد من يدافع عنـه ويتبنّى قضايــاه وشـرعيتـه، فآيـن جــيل الثمانيـنات من كل هذا؟ يصيبني الرعب كلما تذكرت أسماء عديدة مبدعـة حقا كانت بدايتهـا معي، وأين هي الآن؟ لقد دخلت القوقعة، قوقعة النسيان، ربما فقدت الصمود وربما أصابها الملل واللاجدوى وربما أشياء أخرى عديدة يدركها أصحاب الجرح أنفسهم، ولكن رغم كل هـذا هناك من يقبضون جيدا على جمر الكتابة مهما كانت العراقيل، وأحاول أن أكون واحدا من هؤلاء. والأسمـاء عديدة في مصـر وأيضـا في العالم العربي والخارج.
هل لفتت تجربتك النقّاد؟
هنــاك كتابـات نقديــة ودراســات عن مجموعـاتي الشعريـة لنقّاد من أمثـال د. مجدي توفيق و د.عبير سلامـه، والناقـد والروائـي عبـد الجـواد خفاجـي وغيرهم، ونوقشت في المحافل الأدبية والمؤتمرات، ومنها معرض القاهـرة الدولي للكتـاب. وأرفض بآن أنصّب نفسـي ناقدا في يوم ما لأننـي أرى الناقـد إن سكن المبـدع/الشاعر فهو سيتحـول إلـى (مخبــر سرّي) يتلصص مبكرا على تفاصيله ويجعله يجبن كثيرا، ومن ثم تضيع الكثير من التجارب التي يمكن أن تخـرج.. لذا يظــل المبــدع الحقيقـي مهمومـا بالمغامـرة إلى الأبد، لا إبـداع أو خلق دون مغامـرة تخلق لها حيّزا في عالم الكتابة.
قال النقّاد إنّ في تجربتك الكثير من الحزن؟
الحزن قاسم مشترك في حياة أيّ فرد أو كائن ما، ربّما يكون حزننا هو قمة الصدق، وأنا أحبّ دائما أن أكون صادقـا مع نفسي، والحزن عند أهل الجنوب تميمة لا يتخلّي عنها وهي بدورها لا تتخلّى عنّا حتى في لحظات الفرح القليلة، كلما نظرت حولي يصيبني الحزن رغم أنني كائن أحب الفرح وأعيشه كثيرا من خلال اللحظات القليلة التي اقتنصها عنوة في زحمة الواقع، وأحزن كثيرا كلما وجدت المبدع يزداد عزلة في واقع أصبح لا يعي دور المبدع، فكيف تشعر بالسـعادة وأنـت ترى الأشياء حولك مشوّهة أينما نظرت؟
هل لك طقوس خاصّة في الكتابة؟
أهــم طقـــوسي فــي الكتابة هي «شخبطة» هذا البياض لتخــرج القصيـدة التــي تدخل في قلبي الفرح والبهجة، وأعتقد بآنها تحاول أن تقول شيئا وتحرك الآخر.
كيف تنظر لمشهد قصيدة النثر الآن؟
مشـهد قصـيدة النثر فـي مصر والعالم العـربي أراه في ثـراء مدهـش، وذلك بفـضل كـسر العزلة مؤخرا من خلال وسائل وتقنيات حديثة من أهمها شبكـة الإنترنـيت التي خلقــت عالم المدونــات والمواقـع الأدبية والمنتديـات الفكريـة والثقــافية والإبداعيـة والفنـية وغيرهـا، والتي خلقــت تواصـلا رائعا بين المبدعـين في كل العالـم، وليس العالم العربي فقط. نشهد الآن ظواهر عديدة أهمـها صعود حركة النشر الألكتروني وتقهقر الكتـاب (الورقـي) عن عرشــه، أرى بآن هـذا حـقيقي الآن، أصـبح للنشر الألكتروني آليـات جيّدة من شـآنها كسر العزلــة عن المبدع، وأنا لـي تجربـة من خلال نشر موقع إلكترونـي خاص بي على الشبكة، فـقد تواصـل مع قصيدتي آلاف من المبدعين والقرّاء من كل الأقطار العربية وغيرها، أي أن هناك قارئ جديـد دخل إلى فـضاء قصيدتي وتفـاعل معها، وأصـدق دليل على كسر العزلة، هي دعوتي للمشاركة في الطبعة الثانية لعكاظية الجزائر للشعر العربي، والتي ينظمها الديوان الوطني للثقـافة والإعلام بدولـة الجـــزائر الشقيـــقـــة فـــي ماي/أيار الماضـي. وعندما استفسرت عـن الطريقة التي تم بها ترشيحي، علمت بآنها تمت بناء على تواصلي مع الحركة الأدبيـة في مصـر والعالم العربـي من خلال شبكة الإنترنيت ومن خلال موقعي أيضا، إذن لقد انكسر حاجز المركزية والعاصمة التي كانت هي وحدها المانحة. لقد استطاعت قصـيدة النثر أن تخلق لها فضاءً على خريطة الشعر المصـري والعربي، والأسـماء عديدة لا يتسع المجال لذكرها، فقط أقول بان قصيدة النثر هي التي تسود الآن المشهد الشعري، إطلالة سريعة على معظم الدوريات والصحف والقنوات الثقافيـة ومدونـات الإنترنيت سوف نجد الثـراء الذي تشكله قصيدة النثر بمختلف أجيال مبدعيــها في كــل الأقطـار العربيــــة وخــارجـــها، إذن قصيـدة النثر تلبّي حاجـات كثيرة وتُثري الحياة بما لديها من إمكانيات مدهشة وخلاّقة
2 اكـتب تــعليــقـك على الموضوع:
الجميل محمد عبداللطيف الصغير
تقديرى لجهدك الرائع
وسعيد بتواجد موضوعاتى فى مدونتك
محبتى
محمود مغربى
دا اقل واجب ممكن اعمله مع مبدع مثلك
إرسال تعليق
اكتب تعليقك بدون تسجيل